آثار الجهاد في سبيل الله
آثار الجهاد:
الجهاد في سبيل الله له آثارٌ بالغةُ الأهمية على النفس والمجتمع تحتّم علينا الوقوف عندها والتفكّر فيها.
إنّ الحق تبارك وتعالى لم يشرّع شيئاً إلا لمصلحة البشر وسعادتهم، فكيف إذا كان هذا التكليف هو الجهاد والتضحية في سبيله بأغلى ما يملكه هذا الإنسان وهي حياته ووجوده في هذا العالم؟! وهو الذي أمر عباده صراحة: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلَا يحُرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ﴾1. وطلب من أولئك الذين يريدون الحياة الآخرة أن يسعوا في شرائها: ﴿فَلْيُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشرْونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بالآخرة﴾2. هي إذاً مسألة بيعٍ وشراءٍ في أسمى تجارةٍ مع الله تعالى، فما عساها أن تكون الفوائد والآثار المترتّبة على هذه التجارة؟! يمكن تقسيم هذه الآثار والنتائج الناتجة عن الجهاد إلى آثار ونتائج دنيوية وأخروية:
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولداً"3، وفيه إشارة واضحة إلى أنّ بقية السيف، وهم الذين يبقون بعد الذين قتلوا في حفظ شرفهم والدفاع عن الدين والمقدّسات وفضَّلوا الموت على الذلّ، فيكون الباقون شرفاء وعددهم أبقى، وولدهم أكثر، بخلاف الأذلاء، فإن مصيرهم إلى المحو والفناء. وأبرز مثال على ذلك علي بن الحسين عليه السلام بقيّة السّيف من أبناء الحسين عليه السلام، والذي به حفظ نسل أبي الشهداء عليه السلام. فلم يتمكّن لا السّيف ولا القتل أن يقضي على هذه السّلالة الطّاهرة، ومن يسير على نهجها، بل كلّما استشهدت في هذه القافلة كوكبة من الشهداء كانت بقيّة السيف تجد طريقها سريعاً نحو النموّ والتّكاثر، وهذه سنة مستمرّة لا تختصّ بزمان دون آخر، ونعيشها اليوم في لبنان بشكل واضح في جهادنا ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، حين النمو وازدياد القوة دائمين وفي تطوّر وتصاعد مستمرّ بتوفيق الله وفضله.
الآثار الدنيويَّة للجهاد:
1- العزّة والرفعة:
ترتبط حياة المجتمع بحياة أفراده. فالمجتمع الذي يتواجد فيه أشخاصٌ مجاهدون بفعاليةٍ، يبقى في حالةٍ دائمةٍ من النشاطِ والتقدُّم السَّريع، ويحافظ على دوامه واستمراريّته، ولكنّ المجتمع الذي يحوي أفراداً ضعافاً وخاملين وبلا تأثير، هو مجتمعٌ ميّتٌ وفاشل.
ومن هنا، يُعدُّ حفظ المجتمع عزيزاً ومنيعاً من أفضل آثار الجهاد بنظر الإسلام العزيز، حيث يكونُ الجميع فيه مستعدين للدفاع عن الدين الإلهي وعن المظلومين وعن مشروع العدالة، وإلحاق الهزيمة بالعدوّ في الفرصة المناسبة؛ لإبطال كيده وإضعافه أو القضاء عليه.
إن فضل الجهاد كبيرٌ من هذه الجهة، وطالما يحافظ المجتمع على روحيته هذه فلن يبتلى بالذل أبداً، ويبقى دائراً بين إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وقد بيّن القرآن الكريم المنشأ لصيانة المجتمعات الإيمانية في أمره لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد، قال تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾4.
إنّ تاريخ صدر الإسلام هو خير شاهد على هذا المدّعى. فإلى الزَّمن الذي تمسّك فيه المسلمون بالجهاد، وحافظوا على كون زمام المبادرة بالهجوم في أيديهم ضمن الشرائط العامَّة، كانوا يعيشون مكلّلين بالنصر والعزّة. وإن تاريخنا المعاصر الذي تخطّه المقاومة الإسلامية في لبنان لهو شاهد قويّ على هذه العزّة والرفعة أيضاً. فبعد سنوات طويلة ومديدة من الاستضعاف انقلبت المعادلة وصارت قوّة هذه الثلّة المستضعفة في الأرض بحجم أمّة كبيرة مترامية الأطراف، بفضل الجهاد والتضحية والإيثار في سبيل الدين ونصرة المستضعفين.
كما أنَّ العزّة والرفعة اللذين يحدثان من أثر الجهاد يمتدُّ أثرهما أحياناً إلى الأجيال اللاحقة، ولا يقتصران على الجيل الحاضر. وعلى هذا الصعيد، يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أُغزوا تُورِّثوا أبناءكم مجداً"5.
2- تقوية روح المبادرة والعزيمة:
إنَّ حصول الحرب وما ينتج عنها من مشكلاتٍ يدفع الناسَ إلى التحرّك، فتصير سبباً لاهتمام الجميع بالسُّبل الآيلة إلى صدِّ العدوّ.
إن الحرب تمنعُ أكثر أفراد المجتمع من الخوض في الأمور الجزئية وغير المفيدة، تبدّل روحيّة حبِّ الاسترخاء والرفاه إلى روحيّة السعي والجدّ وارتفاع المعنويات القتالية. ومن المعلوم أنَّ الجهود والقدرات العسكرية تعدُّ أيضاً من أفضل الآثار التي تنشأ على أثر تحرّك قوى العدوّ.
وفي سياق بيانه أنّ الحرب تخرج الناس من حالة الخمود وتجبرهم على التحرّك، يقول الإمام الخميني قدس سره: "تعدّ الحرب أمراً جيداً من بعض النواحي، وذلك أنّها تُبرِز الشجاعة الموجودة في داخل الإنسان، وتؤدّي إلى تحريكه وإخراجه من حالة الخمود... فإنّ قوى الإنسان تتّجه دائماً نحو الخمود، وأولئك الذين يعتادون على الرخاء والرفاهية خصوصاً، سيكون حالهم أسوأ، ولكن عندما تقع حرب ما وتتجلّى خلالها الملاحم، ولا يبقى إلاّ صوت المدافع، فكلُّ ذلك يُخرج الإنسان من حالة الخمود والضعف، فتظهر حقيقة الإنسان وتبرز فعاليته وطاقاته إلى العلن"6.
3- تقوية روح الاكتفاء الذاتي:
إنّ الحربَ تؤدِّي إلى إيجاد صعوبات جمّة، وإلى وقوع المجاهدين تحت وطأة الحصار. وهذه الضغوط نفسُها تدفع بالشعب إلى قطع يد الاعتماد على الأجانب، والاعتماد على النفس في المقابل.
فعامل الاعتماد على النفس والسعي لأجل رفع الاحتياجات عن طريقه، يؤدّي إلى نموّ الأدمغة ونضجها، ولهذا السبب قال إمام الأمة قدس سره: "لقد كانت هذه الحرب وهذا الحصار الاقتصادي وإخراج الخبراء الأجانب هدية إلهية كنّا غافلين عنها. واليوم، مع توجّه الحكومة والجيش لحظر بضائع ناهبي العالم، وللسير في طريق الابتكار بكلّ جدٍّ ونشاط، فإنّ الأمل معقود على حصول البلد على الاكتفاء الذاتي، والنجاة من الفقر والتبعية للأعداء. ولقد رأينا بأمّ العين كيف أنّ كثيراً من المصانع والوسائل المتطوّرة - كالطائرات وغيرها من الوسائل – والتي لم يكن يُتصوّر أن يتمكّن المتخصّصون الإيرانيون من تشغيلها، في وقت كان الجميع قد مدّوا أيديهم إلى الغرب أو الشرق من أجل أن يدير متخصّصوهم هذه المصانع والوسائل. ورأينا كيف أنّه وعلى أثر الحصار الاقتصادي والحرب المفروضة، قام شبابنا أنفسُهم بصنع قطع الغيار الضرورية وبقيمة أقلّ من المعروض، وسدّوا باب الحاجة، وأثبتوا أنّنا إن عزمنا فنحن قادرون على القيام بكل شيء"7.
4- فصل الحق عن الباطل:
من الآثار الأخرى المهمّة للجهاد، هو فصل خط النفاق عن المجتمع الإسلامي ومعرفة الصديق من العدو. ففي كلِّ مجتمع يعيش المؤمنون الخُلّص جنباً إلى جنب مع ضعاف الإيمان والمنافقين من الناس، ومن الصَّعب جداً في زمن السِّلم والصُّلح تمييز هذه الفئات، إذ كثيراً ما يُظهر المنافقون وضعاف الإيمان أنفسهم بصورة المدافعين عن الحقّ أكثر من المؤمنين الحقيقيين. ولكن في الشدائد، وخاصّة في أوقات الحرب والجهاد، تُعرف معادن الرجال وتمتاز صفوف الحقّ عن الباطل، فيبقى المؤمنون الحقيقيون، الصابرون والأوفياء في الساحة حتى النهاية، في الوقت الذي يُخلي الآخرون الميدان ويفرّون.
ولقد أشار القرآن المجيد إلى هذه الحقيقة بشكلٍ متكرِّرٍ، وبيَّن أنّ اللهَ أراد أن يمتاز الخُلّص عن غير الخُلّص في ساحة الحرب ضمن قاعدة الأسباب والمسبّبات ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾8.
وفي آية أخرى، ولأجل توبيخ المنافقين، يخاطب تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾9، ومعنى الآية، أنه قد عفا الله عنك "وهو دعاء له بالعفو" لم أذنت لهم في التخلّف والقعود؟ ولو شئت لم تأذن لهم وكانوا أحقّ به، حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، فيتميّز عندك كذبهم ونفاقهم "لو خرجوا معك إلى الحرب"، والآية في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم وأنهم مفتضحون بأدنى امتحان10.
5- الوحدة والتماسك:
إنّ الشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدو، ويحوّل كل طاقاته نحو المواجهة. فإنّ الحرب تقود جميع الطاقات والقوى في اتجاه واحد، وتجعلها تنضوي تحت راية واحدة، وتوجِدُ روح التعاون فيما بينها، وتصير سبباً في بروز الإيثار والتسامح وعشرات الصفات الأخلاقية السامية، والله تعالى أشار إلى هذه الحقيقة بوضوح في كتابه المكرَّمِ عندما قال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾11.
6- النصر:
يُعدّ الانتصار على العدو، في بعض الموارد، أحد أفضل آثار الجهاد، لأنّه مع عدم بذل الجهد في ساحة الحرب لا يتحقّق الانتصار، والشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.
والقرآن المجيد، بعد تعداد الآثار المعنوية والأخروية للجهاد، يشير في سورة الصف المباركة إلى هذا الأثر الدنيوي، حيث يقول تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾12.
وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّ المجاهدين في سبيل الله منتصرون وأعزاء حتماً، سواء عن طريق الانتصار الظاهري وهزيمة العدو، أم بنيل الشهادة والوصول إلى جوار رحمة الحقّ سبحانه، حيث قد أثنى القرآن الكريم على هاتين النتيجتين: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾13.
الآثار الأخروية للجهاد:
1- البشرى والفوز العظيم:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ﴾14.
عرّف اللّه سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية بأنّه مشتر، والمؤمنين بأنّهم بائعون، ولما كانت كل معاملة تتكوّن في الحقيقة من خمسة أركان أساسيّة، وهي عبارة عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند المعاملة أو وثيقتها، فقد أشار اللّه سبحانه إلى كل هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة، والجنّة ثمناً لهذه المعاملة. وأما طريقة تسليم البضاعة فبواسطة القتال. والحق سبحانه وتعالى حاضر في كل مكان وبالأخصّ في ميدان الجهاد لتقبّل هذه الصفقة، سواء كانت روحاً أم مالاً يبذل، وإذا كان هذا القتال في سبيله فهو تعالى سوف يكون المشتري فيقبل هذه الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.
وثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجّلاً، إلّا أنّه مضمون، لأنّ اللّه تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع، لا يوجد من هو أوفى بعهده منه. فلا هو ينسى، ولا يعجز عن الأداء، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ولا يخلف وعده والعياذ باللّه، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشكّ في وفائه بعهده. والأروع من كلّ شيء أنّه تعالى قد بارك للطّرف المقابل صفقته، وتمنّى له أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماماً كما هو المتعارف بين التجار، والأكثر من ذلك وعده بالبشرى والفوز العظيم على هذه المعاملة العظيمة والصفقة الكبيرة. فهل يتصوّر الإنسان رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!
ويقول الله عزّ وجل في آية أخرى من كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْفَائزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهَّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾15.
الآيات الكريمة هي في مقام بيان أجر المجاهدين في سبيل الله من أجل الذود والحفاظ على دينهم السماوي المقدَّس. فالمؤمنون الذين صدّقوا بوحدانية اللّه تعالى وهاجروا عن أوطانهم التي هي ديار الكفر، وجاهدوا الكفّار في طريق مرضاة اللّه وإعلاء كلمة الحق، وبذلوا المال والنفس في سبيل الله حتى الشهادة، وتحمّلوا المشاقّ من جرّاء ذلك كلّه، هم أَعظم درجة عند اللَّه ممّن سواهم من المؤمنين الّذين لم يكن لهم نصيب من ذلك كلّه، وهم المستحقّون للفوز بثواب الله الموعود ما داموا قد استمرّوا على عقيدتهم وإيمانهم. والله تعالى يزفّ إليهم البشرى - بما صبروا واحتسبوا في جنبه - بالفوز والرحمة والرضوان. ويبشّرهم أيضاً بالجنّة خالدين فيها إلى الأبد، مع ما فيها من النّعم الدائمة التي لا حدّ لها ولا انقطاع. هذا هو أجر وثواب من يهب نفسه وماله لله ويجاهد في سبيله ويضحّي بأغلى ما يملك من أجله.
2- المغفرة والجنة:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز ﴿يَأَيهُّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمُْ عَلىَ تجِارَةٍ تُنجِيكمُ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتجُاهِدُونَ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكمُْ وَأَنفُسِكُمْ ذَالِكمُْ خَيرْ لَّكمُْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِر لَكمُْ ذُنُوبَكمُْ ويُدْخِلْكمُْ جَنَّاتٍ تجَرِى مِن تحَتهِا الْأَنهْارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأخْرَى تحُبُّونهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾16.
لقد شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة، و أن الناس في الحياة الدنيا تجّار يأتون إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه اللّه سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من يربح ويسعد، ومنهم من لا يجني سوى الخيبة والخسران. والمجاهدون في سبيل اللّه هم من الصنف الأول.
إنّ الهدف الأساسي لهذه الآيات المباركة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللّه، وهما وإن عُدّا من الواجبات المفروضة، إلّا أنّ الآيات هنا لم تطرحهما بصيغة الأمر، بل قدّمتهما بعرض تجاريّ مقترن بتعابير تبيّن اللطف اللامتناهي للبارئ عزّ وجلّ.
فممّا لا شكّ فيه أن النجاة من العذاب الأليم أمنية كل إنسان، وهذه النجاة موقوفة كما يقول تبارك وتعالى على أمرين أساسييّن: الإيمان، والجهاد.
فالإيمان بالله وبرسوله، والجهاد بالنفس والمال هما رأس مال هذه التجارة المنجية من العذاب، فالإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان باللّه تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم وجود الوسائل والإمكانات المالية، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّ الله تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهميّة، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّا عند توفّر الإمكانات الماديّة.
أما العوض لهذه المعاملة العظيمة والترجمة العمليّة لهذه النجاة الموعودة فهي المغفرة والجنة. إذ أنّ أوّل هدية يتحف اللّه سبحانه بها عباده الذين جاهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة جميع الذنوب، لأنّ هذه المغفرة مقدّمة للدخول في جنّة الخلد ولا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب.
ثمَّ إنَّ مقابلة المال والنفس المبذولين وهما المتاع القليل، بجنّات عدن الخالدة، مما تطيب به نفسُ المؤمن وتقوى إرادته لبذل النَّفس والتضحية بها، واختيار البقاء على الفناء. ثم يبشّرهم الحق تعالى في نهاية المطاف بنعمة يحبّونها وهي النصر القريب. فيا لها من تجارة مباركة مربحة تشتمل على النجاة من العذاب، والمغفرة والجنة، والفتح القريب. ولذلك عبّر عنها البارئ سبحانه بالفوز العظيم، وزفَّ لهم بشراها.
3- هداية السبيل:
قال الله تعالى ﴿والَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنهَدِيَنهَّمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾17.
بالرغم من كلّ المشاكل التي تحيط بطريق المسير إلى اللّه إلّا أن هناك حقيقة ثابتة، وهي أن اللّه يمنح الهداية والقوّة والاطمئنان مقابل هذه المشاكل للذين يجاهدون فيه. والجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلا فيما يخالف هوى النَّفس ومقتضى الطَّبع. وله معنى واسع ومطلق فهو يشمل كلّ سعيٍ وجهدٍ في سبيل اللّه ومن أجل الوصول إلى الأهداف الإلهية. سواء كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر عن المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أيّ عملٍ حسن وصالح! ولكن هذه الهداية مشروطة بأمر أساسيٍّ وهي أن تكون في الله فقط، بمعنى أن تكون خالصة له. والمراد بالسبل الطرق المتعدّدة التي تنتهي إلى اللّه.
وعليه، فإن الجهاد في أيّ طريق كان من هذه الطرق إذا كان خالصاً لوجه الله فهو سبب للهداية إلى الطريق الذي ينتهي إلى اللّه. وهذا وعدٌ وعده اللّه لجميع المجاهدين في سبيله، وأكّده بأنواع التأكيدات، فجعل الهداية والتوفيق والانتصار والرقيّ في أمرين أساسييّن هما "الجهاد" و"خلوص النية".
4- محبّة الحق:
يقول الله عزّ وجل في كتابه الكريم ﴿إِنَّ اللَّهَ يحُبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فىِ سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾18. تبيّن الآية الكريمة وتؤكّد بشكل واضح أن الذين يقاتلون في سبيل الله هم مورد محبّته. وكما نلاحظ أنّ التأكيد هنا ليس على القتال فحسب، بل على القتال الذي هو "في سبيله" تعالى وحده، أضف إلى خاصّية أخرى ينبغي أن يتمتّع بها المجاهدون لكي ينعموا بمحبة الحق، وهي ثباتهم ووقوفهم بشكل قويّ وراسخ أمام العدوّ بصورة تعكس قوة صفّهم الذي ليس فيه تصدُّع أو تخلخل. فالانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميدان القتال من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر.
وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحروب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وإلّا فلن يكون النصر التامّ حليفنا. فتشبيه القرآن العدوّ بأنّه كالسيل العارم والمدمّر و الذي لا يمكن صدّه والسيطرة عليه إلّا من خلال سدّ حديديّ محكم ومنيع، والتعبير بأن على المؤمنين أن يكونوا كالبنيان المرصوص من أروع التعابير عن الوحدة والرسوخ. وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ، دوراً معيّناً في مواجهة السيل، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء الأخرى، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تشقّقات أو ثغرات فيه، سيصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه، وهكذا هو حال المؤمنين في تراصّهم ووحدتهم إذا ما حاول العدوّ النيل منهم فإنه سيرى المواجهة القوية وسيعود خائباً.
وإذا كان البارئ عزّ وجلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه يلزم من ذلك أنّه سبحانه وفي نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة، ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّداً في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار مسلم!!
المفاهيم الرئيسية
1- للجهاد في سبيل الله آثار مشرقة على صعيدي الفرد والمجتمع.
2- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: العزّة والرفعة، وتقوية روح المبادرة والعزيمة، وتقوية روح الاكتفاء الذاتي.
3- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: فصل الحق عن الباطل، والوحدة والتماسك، فالشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدو، ويحوّل كل طاقاته نحو المواجهة.
4- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: النصر، إذ يُعدّ الانتصار على العدو، أحد أفضل آثار الجهاد، فالشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.
5- من الآثار الأخروية للجهاد: البشرى والفوز العظيم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ﴾.
6- من الآثار الأخروية للجهاد: الفوز بالثواب، يقول الله تعالى: ﴿﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهَّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾.
7- من الآثار الأخروية للجهاد: هداية السبيل، يقول الله تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنهَدِيَنهَّمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين﴾.
8- من الآثار الأخروية للجهاد: محبّة الحق، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يحُبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فيِ سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
* كتاب التربية الجهادية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- التوبة، 29.
2- النساء، 74.
3- نهج البلاغة، ج4، ص19.
4- النساء، 84.
5- وسائل الشيعة، ج15، ص15.
6- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج3، ص272.
7- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج3، ص454.
8- محمد، 31.
9- التوبة، 43.
10- راجع، تفسير الميزان، ج9، ص284-285.
11- آل عمران، 103.
12- الصف، 13.
13- التوبة،52.
14- التوبة،111.
15- التوبة، 20-22.
16- الصفّ، 10-13.
17- العنكبوت، 69.
18- الصفّ، 4.
آثار الجهاد:
الجهاد في سبيل الله له آثارٌ بالغةُ الأهمية على النفس والمجتمع تحتّم علينا الوقوف عندها والتفكّر فيها.
إنّ الحق تبارك وتعالى لم يشرّع شيئاً إلا لمصلحة البشر وسعادتهم، فكيف إذا كان هذا التكليف هو الجهاد والتضحية في سبيله بأغلى ما يملكه هذا الإنسان وهي حياته ووجوده في هذا العالم؟! وهو الذي أمر عباده صراحة: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلَا يحُرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ﴾1. وطلب من أولئك الذين يريدون الحياة الآخرة أن يسعوا في شرائها: ﴿فَلْيُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشرْونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بالآخرة﴾2. هي إذاً مسألة بيعٍ وشراءٍ في أسمى تجارةٍ مع الله تعالى، فما عساها أن تكون الفوائد والآثار المترتّبة على هذه التجارة؟! يمكن تقسيم هذه الآثار والنتائج الناتجة عن الجهاد إلى آثار ونتائج دنيوية وأخروية:
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولداً"3، وفيه إشارة واضحة إلى أنّ بقية السيف، وهم الذين يبقون بعد الذين قتلوا في حفظ شرفهم والدفاع عن الدين والمقدّسات وفضَّلوا الموت على الذلّ، فيكون الباقون شرفاء وعددهم أبقى، وولدهم أكثر، بخلاف الأذلاء، فإن مصيرهم إلى المحو والفناء. وأبرز مثال على ذلك علي بن الحسين عليه السلام بقيّة السّيف من أبناء الحسين عليه السلام، والذي به حفظ نسل أبي الشهداء عليه السلام. فلم يتمكّن لا السّيف ولا القتل أن يقضي على هذه السّلالة الطّاهرة، ومن يسير على نهجها، بل كلّما استشهدت في هذه القافلة كوكبة من الشهداء كانت بقيّة السيف تجد طريقها سريعاً نحو النموّ والتّكاثر، وهذه سنة مستمرّة لا تختصّ بزمان دون آخر، ونعيشها اليوم في لبنان بشكل واضح في جهادنا ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، حين النمو وازدياد القوة دائمين وفي تطوّر وتصاعد مستمرّ بتوفيق الله وفضله.
الآثار الدنيويَّة للجهاد:
1- العزّة والرفعة:
ترتبط حياة المجتمع بحياة أفراده. فالمجتمع الذي يتواجد فيه أشخاصٌ مجاهدون بفعاليةٍ، يبقى في حالةٍ دائمةٍ من النشاطِ والتقدُّم السَّريع، ويحافظ على دوامه واستمراريّته، ولكنّ المجتمع الذي يحوي أفراداً ضعافاً وخاملين وبلا تأثير، هو مجتمعٌ ميّتٌ وفاشل.
ومن هنا، يُعدُّ حفظ المجتمع عزيزاً ومنيعاً من أفضل آثار الجهاد بنظر الإسلام العزيز، حيث يكونُ الجميع فيه مستعدين للدفاع عن الدين الإلهي وعن المظلومين وعن مشروع العدالة، وإلحاق الهزيمة بالعدوّ في الفرصة المناسبة؛ لإبطال كيده وإضعافه أو القضاء عليه.
إن فضل الجهاد كبيرٌ من هذه الجهة، وطالما يحافظ المجتمع على روحيته هذه فلن يبتلى بالذل أبداً، ويبقى دائراً بين إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وقد بيّن القرآن الكريم المنشأ لصيانة المجتمعات الإيمانية في أمره لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد، قال تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾4.
إنّ تاريخ صدر الإسلام هو خير شاهد على هذا المدّعى. فإلى الزَّمن الذي تمسّك فيه المسلمون بالجهاد، وحافظوا على كون زمام المبادرة بالهجوم في أيديهم ضمن الشرائط العامَّة، كانوا يعيشون مكلّلين بالنصر والعزّة. وإن تاريخنا المعاصر الذي تخطّه المقاومة الإسلامية في لبنان لهو شاهد قويّ على هذه العزّة والرفعة أيضاً. فبعد سنوات طويلة ومديدة من الاستضعاف انقلبت المعادلة وصارت قوّة هذه الثلّة المستضعفة في الأرض بحجم أمّة كبيرة مترامية الأطراف، بفضل الجهاد والتضحية والإيثار في سبيل الدين ونصرة المستضعفين.
كما أنَّ العزّة والرفعة اللذين يحدثان من أثر الجهاد يمتدُّ أثرهما أحياناً إلى الأجيال اللاحقة، ولا يقتصران على الجيل الحاضر. وعلى هذا الصعيد، يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أُغزوا تُورِّثوا أبناءكم مجداً"5.
2- تقوية روح المبادرة والعزيمة:
إنَّ حصول الحرب وما ينتج عنها من مشكلاتٍ يدفع الناسَ إلى التحرّك، فتصير سبباً لاهتمام الجميع بالسُّبل الآيلة إلى صدِّ العدوّ.
إن الحرب تمنعُ أكثر أفراد المجتمع من الخوض في الأمور الجزئية وغير المفيدة، تبدّل روحيّة حبِّ الاسترخاء والرفاه إلى روحيّة السعي والجدّ وارتفاع المعنويات القتالية. ومن المعلوم أنَّ الجهود والقدرات العسكرية تعدُّ أيضاً من أفضل الآثار التي تنشأ على أثر تحرّك قوى العدوّ.
وفي سياق بيانه أنّ الحرب تخرج الناس من حالة الخمود وتجبرهم على التحرّك، يقول الإمام الخميني قدس سره: "تعدّ الحرب أمراً جيداً من بعض النواحي، وذلك أنّها تُبرِز الشجاعة الموجودة في داخل الإنسان، وتؤدّي إلى تحريكه وإخراجه من حالة الخمود... فإنّ قوى الإنسان تتّجه دائماً نحو الخمود، وأولئك الذين يعتادون على الرخاء والرفاهية خصوصاً، سيكون حالهم أسوأ، ولكن عندما تقع حرب ما وتتجلّى خلالها الملاحم، ولا يبقى إلاّ صوت المدافع، فكلُّ ذلك يُخرج الإنسان من حالة الخمود والضعف، فتظهر حقيقة الإنسان وتبرز فعاليته وطاقاته إلى العلن"6.
3- تقوية روح الاكتفاء الذاتي:
إنّ الحربَ تؤدِّي إلى إيجاد صعوبات جمّة، وإلى وقوع المجاهدين تحت وطأة الحصار. وهذه الضغوط نفسُها تدفع بالشعب إلى قطع يد الاعتماد على الأجانب، والاعتماد على النفس في المقابل.
فعامل الاعتماد على النفس والسعي لأجل رفع الاحتياجات عن طريقه، يؤدّي إلى نموّ الأدمغة ونضجها، ولهذا السبب قال إمام الأمة قدس سره: "لقد كانت هذه الحرب وهذا الحصار الاقتصادي وإخراج الخبراء الأجانب هدية إلهية كنّا غافلين عنها. واليوم، مع توجّه الحكومة والجيش لحظر بضائع ناهبي العالم، وللسير في طريق الابتكار بكلّ جدٍّ ونشاط، فإنّ الأمل معقود على حصول البلد على الاكتفاء الذاتي، والنجاة من الفقر والتبعية للأعداء. ولقد رأينا بأمّ العين كيف أنّ كثيراً من المصانع والوسائل المتطوّرة - كالطائرات وغيرها من الوسائل – والتي لم يكن يُتصوّر أن يتمكّن المتخصّصون الإيرانيون من تشغيلها، في وقت كان الجميع قد مدّوا أيديهم إلى الغرب أو الشرق من أجل أن يدير متخصّصوهم هذه المصانع والوسائل. ورأينا كيف أنّه وعلى أثر الحصار الاقتصادي والحرب المفروضة، قام شبابنا أنفسُهم بصنع قطع الغيار الضرورية وبقيمة أقلّ من المعروض، وسدّوا باب الحاجة، وأثبتوا أنّنا إن عزمنا فنحن قادرون على القيام بكل شيء"7.
4- فصل الحق عن الباطل:
من الآثار الأخرى المهمّة للجهاد، هو فصل خط النفاق عن المجتمع الإسلامي ومعرفة الصديق من العدو. ففي كلِّ مجتمع يعيش المؤمنون الخُلّص جنباً إلى جنب مع ضعاف الإيمان والمنافقين من الناس، ومن الصَّعب جداً في زمن السِّلم والصُّلح تمييز هذه الفئات، إذ كثيراً ما يُظهر المنافقون وضعاف الإيمان أنفسهم بصورة المدافعين عن الحقّ أكثر من المؤمنين الحقيقيين. ولكن في الشدائد، وخاصّة في أوقات الحرب والجهاد، تُعرف معادن الرجال وتمتاز صفوف الحقّ عن الباطل، فيبقى المؤمنون الحقيقيون، الصابرون والأوفياء في الساحة حتى النهاية، في الوقت الذي يُخلي الآخرون الميدان ويفرّون.
ولقد أشار القرآن المجيد إلى هذه الحقيقة بشكلٍ متكرِّرٍ، وبيَّن أنّ اللهَ أراد أن يمتاز الخُلّص عن غير الخُلّص في ساحة الحرب ضمن قاعدة الأسباب والمسبّبات ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾8.
وفي آية أخرى، ولأجل توبيخ المنافقين، يخاطب تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾9، ومعنى الآية، أنه قد عفا الله عنك "وهو دعاء له بالعفو" لم أذنت لهم في التخلّف والقعود؟ ولو شئت لم تأذن لهم وكانوا أحقّ به، حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، فيتميّز عندك كذبهم ونفاقهم "لو خرجوا معك إلى الحرب"، والآية في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم وأنهم مفتضحون بأدنى امتحان10.
5- الوحدة والتماسك:
إنّ الشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدو، ويحوّل كل طاقاته نحو المواجهة. فإنّ الحرب تقود جميع الطاقات والقوى في اتجاه واحد، وتجعلها تنضوي تحت راية واحدة، وتوجِدُ روح التعاون فيما بينها، وتصير سبباً في بروز الإيثار والتسامح وعشرات الصفات الأخلاقية السامية، والله تعالى أشار إلى هذه الحقيقة بوضوح في كتابه المكرَّمِ عندما قال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾11.
6- النصر:
يُعدّ الانتصار على العدو، في بعض الموارد، أحد أفضل آثار الجهاد، لأنّه مع عدم بذل الجهد في ساحة الحرب لا يتحقّق الانتصار، والشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.
والقرآن المجيد، بعد تعداد الآثار المعنوية والأخروية للجهاد، يشير في سورة الصف المباركة إلى هذا الأثر الدنيوي، حيث يقول تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾12.
وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّ المجاهدين في سبيل الله منتصرون وأعزاء حتماً، سواء عن طريق الانتصار الظاهري وهزيمة العدو، أم بنيل الشهادة والوصول إلى جوار رحمة الحقّ سبحانه، حيث قد أثنى القرآن الكريم على هاتين النتيجتين: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾13.
الآثار الأخروية للجهاد:
1- البشرى والفوز العظيم:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ﴾14.
عرّف اللّه سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية بأنّه مشتر، والمؤمنين بأنّهم بائعون، ولما كانت كل معاملة تتكوّن في الحقيقة من خمسة أركان أساسيّة، وهي عبارة عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند المعاملة أو وثيقتها، فقد أشار اللّه سبحانه إلى كل هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة، والجنّة ثمناً لهذه المعاملة. وأما طريقة تسليم البضاعة فبواسطة القتال. والحق سبحانه وتعالى حاضر في كل مكان وبالأخصّ في ميدان الجهاد لتقبّل هذه الصفقة، سواء كانت روحاً أم مالاً يبذل، وإذا كان هذا القتال في سبيله فهو تعالى سوف يكون المشتري فيقبل هذه الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.
وثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجّلاً، إلّا أنّه مضمون، لأنّ اللّه تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع، لا يوجد من هو أوفى بعهده منه. فلا هو ينسى، ولا يعجز عن الأداء، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ولا يخلف وعده والعياذ باللّه، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشكّ في وفائه بعهده. والأروع من كلّ شيء أنّه تعالى قد بارك للطّرف المقابل صفقته، وتمنّى له أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماماً كما هو المتعارف بين التجار، والأكثر من ذلك وعده بالبشرى والفوز العظيم على هذه المعاملة العظيمة والصفقة الكبيرة. فهل يتصوّر الإنسان رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!
ويقول الله عزّ وجل في آية أخرى من كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْفَائزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهَّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾15.
الآيات الكريمة هي في مقام بيان أجر المجاهدين في سبيل الله من أجل الذود والحفاظ على دينهم السماوي المقدَّس. فالمؤمنون الذين صدّقوا بوحدانية اللّه تعالى وهاجروا عن أوطانهم التي هي ديار الكفر، وجاهدوا الكفّار في طريق مرضاة اللّه وإعلاء كلمة الحق، وبذلوا المال والنفس في سبيل الله حتى الشهادة، وتحمّلوا المشاقّ من جرّاء ذلك كلّه، هم أَعظم درجة عند اللَّه ممّن سواهم من المؤمنين الّذين لم يكن لهم نصيب من ذلك كلّه، وهم المستحقّون للفوز بثواب الله الموعود ما داموا قد استمرّوا على عقيدتهم وإيمانهم. والله تعالى يزفّ إليهم البشرى - بما صبروا واحتسبوا في جنبه - بالفوز والرحمة والرضوان. ويبشّرهم أيضاً بالجنّة خالدين فيها إلى الأبد، مع ما فيها من النّعم الدائمة التي لا حدّ لها ولا انقطاع. هذا هو أجر وثواب من يهب نفسه وماله لله ويجاهد في سبيله ويضحّي بأغلى ما يملك من أجله.
2- المغفرة والجنة:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز ﴿يَأَيهُّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمُْ عَلىَ تجِارَةٍ تُنجِيكمُ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتجُاهِدُونَ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكمُْ وَأَنفُسِكُمْ ذَالِكمُْ خَيرْ لَّكمُْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِر لَكمُْ ذُنُوبَكمُْ ويُدْخِلْكمُْ جَنَّاتٍ تجَرِى مِن تحَتهِا الْأَنهْارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأخْرَى تحُبُّونهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾16.
لقد شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة، و أن الناس في الحياة الدنيا تجّار يأتون إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه اللّه سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من يربح ويسعد، ومنهم من لا يجني سوى الخيبة والخسران. والمجاهدون في سبيل اللّه هم من الصنف الأول.
إنّ الهدف الأساسي لهذه الآيات المباركة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللّه، وهما وإن عُدّا من الواجبات المفروضة، إلّا أنّ الآيات هنا لم تطرحهما بصيغة الأمر، بل قدّمتهما بعرض تجاريّ مقترن بتعابير تبيّن اللطف اللامتناهي للبارئ عزّ وجلّ.
فممّا لا شكّ فيه أن النجاة من العذاب الأليم أمنية كل إنسان، وهذه النجاة موقوفة كما يقول تبارك وتعالى على أمرين أساسييّن: الإيمان، والجهاد.
فالإيمان بالله وبرسوله، والجهاد بالنفس والمال هما رأس مال هذه التجارة المنجية من العذاب، فالإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان باللّه تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم وجود الوسائل والإمكانات المالية، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّ الله تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهميّة، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّا عند توفّر الإمكانات الماديّة.
أما العوض لهذه المعاملة العظيمة والترجمة العمليّة لهذه النجاة الموعودة فهي المغفرة والجنة. إذ أنّ أوّل هدية يتحف اللّه سبحانه بها عباده الذين جاهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة جميع الذنوب، لأنّ هذه المغفرة مقدّمة للدخول في جنّة الخلد ولا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب.
ثمَّ إنَّ مقابلة المال والنفس المبذولين وهما المتاع القليل، بجنّات عدن الخالدة، مما تطيب به نفسُ المؤمن وتقوى إرادته لبذل النَّفس والتضحية بها، واختيار البقاء على الفناء. ثم يبشّرهم الحق تعالى في نهاية المطاف بنعمة يحبّونها وهي النصر القريب. فيا لها من تجارة مباركة مربحة تشتمل على النجاة من العذاب، والمغفرة والجنة، والفتح القريب. ولذلك عبّر عنها البارئ سبحانه بالفوز العظيم، وزفَّ لهم بشراها.
3- هداية السبيل:
قال الله تعالى ﴿والَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنهَدِيَنهَّمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾17.
بالرغم من كلّ المشاكل التي تحيط بطريق المسير إلى اللّه إلّا أن هناك حقيقة ثابتة، وهي أن اللّه يمنح الهداية والقوّة والاطمئنان مقابل هذه المشاكل للذين يجاهدون فيه. والجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلا فيما يخالف هوى النَّفس ومقتضى الطَّبع. وله معنى واسع ومطلق فهو يشمل كلّ سعيٍ وجهدٍ في سبيل اللّه ومن أجل الوصول إلى الأهداف الإلهية. سواء كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر عن المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أيّ عملٍ حسن وصالح! ولكن هذه الهداية مشروطة بأمر أساسيٍّ وهي أن تكون في الله فقط، بمعنى أن تكون خالصة له. والمراد بالسبل الطرق المتعدّدة التي تنتهي إلى اللّه.
وعليه، فإن الجهاد في أيّ طريق كان من هذه الطرق إذا كان خالصاً لوجه الله فهو سبب للهداية إلى الطريق الذي ينتهي إلى اللّه. وهذا وعدٌ وعده اللّه لجميع المجاهدين في سبيله، وأكّده بأنواع التأكيدات، فجعل الهداية والتوفيق والانتصار والرقيّ في أمرين أساسييّن هما "الجهاد" و"خلوص النية".
4- محبّة الحق:
يقول الله عزّ وجل في كتابه الكريم ﴿إِنَّ اللَّهَ يحُبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فىِ سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾18. تبيّن الآية الكريمة وتؤكّد بشكل واضح أن الذين يقاتلون في سبيل الله هم مورد محبّته. وكما نلاحظ أنّ التأكيد هنا ليس على القتال فحسب، بل على القتال الذي هو "في سبيله" تعالى وحده، أضف إلى خاصّية أخرى ينبغي أن يتمتّع بها المجاهدون لكي ينعموا بمحبة الحق، وهي ثباتهم ووقوفهم بشكل قويّ وراسخ أمام العدوّ بصورة تعكس قوة صفّهم الذي ليس فيه تصدُّع أو تخلخل. فالانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميدان القتال من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر.
وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحروب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وإلّا فلن يكون النصر التامّ حليفنا. فتشبيه القرآن العدوّ بأنّه كالسيل العارم والمدمّر و الذي لا يمكن صدّه والسيطرة عليه إلّا من خلال سدّ حديديّ محكم ومنيع، والتعبير بأن على المؤمنين أن يكونوا كالبنيان المرصوص من أروع التعابير عن الوحدة والرسوخ. وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ، دوراً معيّناً في مواجهة السيل، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء الأخرى، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تشقّقات أو ثغرات فيه، سيصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه، وهكذا هو حال المؤمنين في تراصّهم ووحدتهم إذا ما حاول العدوّ النيل منهم فإنه سيرى المواجهة القوية وسيعود خائباً.
وإذا كان البارئ عزّ وجلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه يلزم من ذلك أنّه سبحانه وفي نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة، ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّداً في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار مسلم!!
المفاهيم الرئيسية
1- للجهاد في سبيل الله آثار مشرقة على صعيدي الفرد والمجتمع.
2- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: العزّة والرفعة، وتقوية روح المبادرة والعزيمة، وتقوية روح الاكتفاء الذاتي.
3- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: فصل الحق عن الباطل، والوحدة والتماسك، فالشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدو، ويحوّل كل طاقاته نحو المواجهة.
4- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: النصر، إذ يُعدّ الانتصار على العدو، أحد أفضل آثار الجهاد، فالشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.
5- من الآثار الأخروية للجهاد: البشرى والفوز العظيم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ﴾.
6- من الآثار الأخروية للجهاد: الفوز بالثواب، يقول الله تعالى: ﴿﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهَّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾.
7- من الآثار الأخروية للجهاد: هداية السبيل، يقول الله تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنهَدِيَنهَّمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين﴾.
8- من الآثار الأخروية للجهاد: محبّة الحق، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يحُبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فيِ سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
* كتاب التربية الجهادية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- التوبة، 29.
2- النساء، 74.
3- نهج البلاغة، ج4، ص19.
4- النساء، 84.
5- وسائل الشيعة، ج15، ص15.
6- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج3، ص272.
7- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج3، ص454.
8- محمد، 31.
9- التوبة، 43.
10- راجع، تفسير الميزان، ج9، ص284-285.
11- آل عمران، 103.
12- الصف، 13.
13- التوبة،52.
14- التوبة،111.
15- التوبة، 20-22.
16- الصفّ، 10-13.
17- العنكبوت، 69.
18- الصفّ، 4.